منذ حداثتنا، انبهرنا واستمتعنا كثيراً بعدد من الأفلام والروايات، العربية والعالمية، التي تدور حول نقطة واحدة...الاختفاء...
فمنذ خَبِر الإنسان الدنيا، وتعلَّم الخوف منها، ومن أعدائه، والوحوش، وحتى الطبيعة نفسها، راوده حلم لم يفارقه قَطّ...حلم القوة، والسطوة، والسيطرة...
حلم التفوّق على الأعداء والمخاوف...
كل الأعداء...
وكل المخاوف...
ولأن الخوف جزء من تكوينه، والشك والحذر مكوِّن أساسي في انفعالاته، فقد تحوَّل هذا الحلم، إلى رغبة دفينة في حماية كيانه ونفسه، وإخفاء جسده عن أعدائه، من البشر والوحوش...
ومن هنا، بدأ حلم الاختفاء...
وفي الميثولوجيا (الأساطير) النرويجية القديمة نجد أوَّل ذِكر للاختفاء وربطه بالقوة المطلَقة في أسطورة تتحدَّث عن قزم يحكم العالم السفلي، ويثير الرعب والفزع في النفوس، حتى يظهر الفارس الأسطوري البطل الذي يواجهه، ويهاجمه، ويدحره، ثم يفوز منه بالغنائم، وعلى رأسها رداء الإخفاء الذي يخفي لابسه عن الأنظار، ويمنحه قوة، ما بعدها قوة...
ومع الأسطورة، بدأ حلم الإنسان برداء الإخفاء، أو قلادة الإخفاء، أو كما نعرفها ويعرفها البسطاء في مصرنا (طاقية الإخفاء)...
ولقرون عديدة بعد الأسطورة النرويجية، ظلّ حلم الاختفاء مجرَّد خيال يسرح فيه الناس أحياناً، ويفكرون فيه بعض الوقت، حتى جاء كاتب الخيال العلمي، والأديب والصحفي والروائي الإنجليزي (هربرت جورج ويلز)، ليطرح لهم روايته الرائعة (الرجل الخفيّ)، عام 1897م.
ففي رائعة (ويلز)، توصّل أحد العلماء إلى عقار خاص يُلغي انعكاس الضوء عن جسده، ومعدَّل انكساره داخله، مما يعني أنه سيصبح شفافاً تماماً...
أو خفياً...
وانبهر الناس برواية (ويلز)...
وعاد حلم الاختفاء إلى العقول، والقلوب، والأذهان، خاصة وأن العالم كان يبدأ عصراً صناعياً متقدِّماً لعبت فيه الكيمياء والكهرباء دوراً كبيراً، وفجَّرتا عشرات الأفكار والأحلام والخيالات في الرؤوس.
ومع مولد عالم السينما انتقل حلم الاختفاء إلى الشاشة الكبيرة، وراح يبهر الناس أكثر، وأكثر، وأكثر...
ولأن المقولة الشهيرة تقول: إن طريق العلم يبدأ بالخيال، فقد تحوَّل الحلم، في عقول عدد من العلماء، إلى كومة من الحسابات، والمعادلات، والأرقام، والتجارب...
وهنا فقط استنكر العلماء فكرة (ويلز) عن الإخفاء...
فلو أن بطل (ولز) قد نجح في جعل خلاياه بالغة الشفافية بالفعل، فهذا يعني أن الضوء لن يسقط على شبكيَّة العين، وإنما سيعبرها دون توقّف، باعتبار أنها تشارك باقى خلايا الجسد شفافيتها المطلقة...
إذن، فبطل (ويلز) الخفيّ لن يمتلك قوة رهيبة كما تقول الرواية، بل على العكس تماماً، فهو سيصبح أعمى، عاجزاً، يحتاج إلى من يُمسِك يده، ويرشده إلى طريقه...
وهنا راح العلم يبحث عن نظرية أخرى للإخفاء...
حتى خاض العالم الحرب العالمية الثانية...
تلك الحرب التي انطلقت كل العقول خلالها، تفكِّر وتعمل وتبتكر وتخترع، من أجل التفوق، وطمعاً في النصر...
وعبر سنوات الحرب الرهيبة، تم اختراع الرادار، والصواريخ، وطائرات الهليكوبتر...
بل والقنبلة الذرية أيضاً...
كل هذا تم استخدامه، وإعلانه، والدخول معه في سباق التسلُّح...
فيما عدا اختراعاً واحداً، ظل طيّ الكتمان، ولم يتحدَّث عنه أحد، لما يقرب من نصف القرن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م)...
ففي عام 1943م في (فيلادلفيا) قام فريق من علماء الفيزياء تحت إشراف الأسطول الأمريكي بتجربة نادرة وفريدة، تمّ خلالها استخدام مجالات كهرومغناطيسية فائقة عبر استكمال نظرية المجال الموحّد، التي تركها (ألبرت أينشتين) منقوصة، لإخفاء المدمِّرة (de-173) عن الأنظار...
ونجحت التجربة...
نجحت نجاحاً باهراً أمام أعين الجميع، إذ اختفت المدمرة تماماً عن الأنظار، ولم تترك خلفها سوى سحابة رمادية باهتة على مستوى سطح الماء فقط...
اختفت المدمرة...
ونجحت التجربة...
ولكن المشروع فشل تماماً...
فعلى الرغم من نجاح عملية الإخفاء، إلاّ أن المجالات الكهرومغناطيسية القوية، أوقفت عمل كل آليات المدمرة، كما أصابت بحّارتها بجنون مؤقت، وبأعراض شتّى واضطراب خلايا المخ...
باختصار، ثبت أن الإخفاء، بوساطة المجالات الكهرومغناطيسية القوية، غير مُجْدٍ على الإطلاق كسلاح حربيّ فعَّال...
ولأن النتائج الإجمالية كانت سيئة، إلى الحدّ الذي اضطُرّت فيه البحرية الأمريكية إلى إدخال نصف بحارة المدمرة مصحّات نفسية للعلاج، تمّ إدراج الأمر تحت بند السرية المطلقة، ولم يعلن عنه قَطّ، إلا بعد مرور نصف قرنٍ من الزمان، وفقاً لقوانين الوثائق الأمريكي...
ولكن أحد مميزات العلم هي أنه ليس حكراً على أحد، لذا فقد توصَّل آخرون وآخرون إلى النظرية نفسها، وإلى النتائج نفسها، بحيث صار الإخفاء عبر المجالات الكهرومغناطيسية القوية أمراً شائعاً معروفاً...
ولهذا جاء الساحر الشهير (دافيد كوبرفيلد) ليستغل هذه النظرية في إخفاء الطائرات، والبوارج، وحتى تمثال الحرية الشهير...
وانبهرنا نحن بما يفعله الساحر الشاب...
واندهشنا...
وربما اضطربنا أيضاً...
ومن المؤكَّد أن العديدين منّا عادوا يشاهدون أفلام الرجل الخفي، وطاقية الإخفاء، وفتوة الناس الغلابة، وغيرها، والتساؤل القديم يعيد طرح نفسه في الأذهان...
هل يمكن أن يصبح الإخفاء حقيقة يوماً ما؟!
والجواب هو أن العلم لا يعرف المستحيل...
ولا يتوقَّف أبداً أمام العقبات...
لذا فقد واصل العلماء تجاربهم في محاولة للتوصُّل إلى سر القوة...
قوة الاختفاء...
وعبر تلك المحاولات توصَّل العلماء إلى إنتاج طلاء خاص شديد السواد، يمتص كل الأشعة الساقطة عليه، ولا يعكس منها شيئاً...
ومن هنا جاءت فكرة الطائرة الشبح...
طائرة ذات أجنحة ماسية القطع، قادرة على تشتيت موجات الرادار، في نفس الوقت الذي تُطلَى فيه بذلك الطلاء الخاص، مما يمنع أجهزة الرادار من رصدها تماماً...
وهذه الفكرة تصلح لإخفاء الأجسام المعدنية، والبعيدة...
ولكن ماذا عن الأجسام العادية؟!
أحد علماء (اليابان) توصل عام 1992م إلى اختراع زيّ خاص مزوَّد بعدد كبير من كاميرات الفيديو الصغيرة التي تنقل كل منها صورة ما أمامها، إلى الجزء العكسي تماماً لاتجاهها في الزي...
بمعنى أصح، لقد اخترع زياً يصنع حالة من الاختفاء الزائف...
وقد يُدهِشكم هذا، ويحيّركم، ويدفعكم للتكذيب والاستنكار أيضاً، ولكن رداء الإخفاء، الذي بدأ به الأمر أسطورياً، تحوَّل إلى حقيقة علمية...
وهنا في (مصر)...
وبالتحديد، في قسم الفيزياء التجريبية، بكلية علوم (القاهرة)...
وباستخدام طلاء خاصّ أيضاً ابتكره الأستاذ الدكتور (محمد على أحمد)...
والطلاء هذه المرة ثابت ودائم، ويكفي أن يتمّ رشه على قطعة من القماش، حتى تخفي تماماً كل ما توضع فوقه أو أمامه...
وبدقة أكثر، لقد اخترعنا نحن رداء الإخفاء، أو طاقية الإخفاء الأسطورية الشهيرة...
اخترعناها هنا...
في (مصر)...
وكما بدأ الأمر، انتهي...
بدأ برداء إخفاء في أسطورة نرويجية قديمة...
وانتهي برداء إخفاء، في معمل تجارب مصرى حديث...
الحلم إذن تحوَّل إلى حقيقة...
حقيقة علمية، ومعملية، وواقعية، وملموسة...
حقيقة قد تؤكِّدها كل المعادلات والنظريات والتجارب، ولكنها تظل دوماً وراء الإدراك البشري التقليدي...
فهكذا العلم، ينطلق دوماً وراء الخيال...
أو وراء العقل!